روائع مختارة | روضة الدعاة | السيرة النبوية | الرحمة.. المهداة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > السيرة النبوية > الرحمة.. المهداة


  الرحمة.. المهداة
     عدد مرات المشاهدة: 6074        عدد مرات الإرسال: 0

سأل الحسن بن علي (رضي الله عنه)، هند بن أبي هالة عن أوصاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فوصف له بدنه فكان مما قال:

(يمشي هونًا، ذريع المشية "واسع الخطو" إذا مشي كأنما ينحط من صبب "يهبط بقوة" و إذا التفت التفت جميعًا.خافض الطرف، نظره إلي الأرض أطول من نظره إلي السماء، جل نظره الملاحظة "لا يحدق" يسوق أصحابه و يبدأ من لقيه بالسلام).

قلت:صف لي منطقه.قال:(كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، و لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه "لا بأطراف فمه".

ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا "لا فضول فيه ولا تقصير" دمثًا ليس بالجافي و لا المهين – يعظم النعمة و إن دقت.لا يذم شيئًا، و لم يكن يذم ذواقًا "ما يطعم" و لا يمدحه.و لا يقام لغضبه، إذا تعرض للحق بشئ حتي ينتصر له.

لا يغضب لنفسه ولا ينتضر لها "سماحة" إذا أشار أشار بكفه كلها.و إذا تعجب قلبها، و إذا غضب أعرض و أشاح.و إذا فرح غض طرفه.جل ضحكه التبسم.و يفتر عن مثل حب الغمام.)

و قال ابن أبي هالة يصف مخرجه (صلى الله عليه وسلم) علي الناس:(كان (صلى الله عليه وسلم) يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه و لا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم و يوليه عليهم.و يحذر الناس و يحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره.يتفقد أصحابه، و يسأل الناس عما في الناس، و يحسن الحسن و يصوبه، و يقبح القبيح و يهونه. معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا.

ثم قال يصف مجلسه (صلى الله عليه وسلم):كان (صلى الله عليه وسلم) لا يجلس و لا يقوم إلا علي ذكر، و لا يوطن الأماكن – لا يميز لنفسه مكانا إذا انتهي إلي القوم، جلس حيث ينتهي به المجلس و يأمر بذلك.

و يعطي كل جلسائه نصيبه، حتي لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابرة حتي يكون هو المنصرف عنه، و من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه و خلقه.

فصار لهم أبًا، و صاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوي، مجلسه مجلس حلم و حياء و صبر و أمانة، لا ترفع فيه الأصوات.و لا تؤبن فيه الحرم "لا تخشي فلتاته" يتعاطفون بالتقوي.يوقرون الكبير و يرحمون الصغير و يرفدون ذا الحاجة، و يؤنسون الغريب.

و قال يصف سيرته:كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ و لا غليظ، و لا صخاب، و لا فحاش و لا عتاب و لا مداح، يتغافل عما لا يشتهي و لا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث:الرياء و الإكثار و ما لا يعنيه.و ترك الناس من ثلاث:لا يذم أحدا و لا يعيره، و لا يطلب عورته و لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه.إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما علي رؤوسهم الطير.

و إذا سكت تكلموا.لا يتنازعون عنده الحديث.من تكلم عنده أنصتوا له حتي يفرغ حديثهم حديث أولهم.يضحك مما يضحكون منه.و يعجب مما يعجبون منه و يصبر للغريب علي الجفوة في المنطق و يقول:إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلب فأرفدوه، و لا يطلب الثناء إلا من مكافئ.

هذه خطوط قصار لما يراه الناس من مظاهر الكمال في سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).أما حقيقة ما بني عليه هذا الرسول الكريم من أمجاد و شمائل، فأمر لا يدرك كنهه.و معرفة العظماء لا يطيقها كل أحد، فكيف بعظيم خلائقه القرآن؟

إن الأمة التي أُخرجت للناس في المدينة بلغت الأوج. كانت تعمل و تجاهد لله وحده.و تسعي إلي غايتها المرموقة في جذل و ثقة، التفت حول نبيها التفاف التلاميذ بالعلم و الجند بالقائد و الأبناء بالوالد الحنون.و تساندت فيما بينها بالأخوة المتبادلة المتناصرة، فهم نفس واحدة في أجسام متعددة و لبنات مشدودة في بناء منسق صلب.

و لقد ربي هذا الإنسان العظيم (صلى الله عليه وسلم) أناسًا شرع الله حدودهم و عقولهم لهذا الدين العظيم فرأيناهم علي مر التاريخ ملائكة البشر يمشون مطمئنين فوق هذه الأرض.

روي أن (أبا خيثمة) قتل ابنه في معركة (بدر) فجاء إلي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول:لقد أخطأتني وقعة بدر و كنت – و الله – عليها حريصًا، حتي ساهمت ابني في الخروج، فخرج "في القرعة" سهمه.

فرزق الشهادة.و قد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة، و أنهارها.يقول:إلحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا.ثم قال:و قد أصبحت يا رسول الله مشتاقًا إلي مرافقته.

و قد كبرت سني و رق عظمي و أحببت لقاء ربي:فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة و مرافقة ابني خيثمة في الجنة، فدعا الرسول عليه الصلاة و السلام له. فقتل (بأحد) شهيدًا.

و كان ((عمرو بن الجموح)) أعرج شديد العرج.و كان له أربعة أبناء شباب يغزون مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلما توجه (صلى الله عليه وسلم) إلي أحد أراد أن يخرج معه.فقال له بنوه:إن الله جعل لك رخصة، فلو قعدت و نحن نكفيك و قد وضع الله عنك الجهاد.

فأتي عمرو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال:إن بني هؤلاء يمنعوني أن أجاهد معك، و والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد)، و قال لبنيه :(و ما عليكم أن تدعوه لعل الله يرزقه الشهادة)، فخرج مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقتل يوم أحد شهيدًا.

و قال نعيم بن مالك:يا نبي الله لا تحرمنا الجنة "و ذلك قبل نشوب القتال" فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(بم)؟ قال:بأني أحب الله و رسوله (صلى الله عليه وسلم) و لا أفر يوم الزحف.فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(صدقت) و استشهد يومئذ.

و قال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم:اللهم إني أقسم عليك أن ألأقي العدو غدًا فيقتلوني ثم يبقروا بطني و يجدعوا أنفي و أذني ثم تسألني:فيم ذلك؟ فأقول فيك.

هذه صورة للرجولة الفارعة التي اصطدم بها الكفر أول المعركة و آخرها فماد أمامها، و اضطربت من تحت أقدامه الأرض، فما ربح شيئًا في بداية القتال. و لا انتفع بما ربح آخره.و هذا اللون من البطولة مدفون تحت جدران التاريخ الإسلامي القائم إلي اليوم، و ما يقوم للإسلام صرح ولا ينكشف عنه طغيان، إلا بهذه القوي المذخورة المضغوطة في أفئدة الصديقين و الشهداء.

من سر هذا الإلهام؟ من مشرق هذا الضياء؟ من مبعث هذا الإقتدار؟.

إنه محمد (صلى الله عليه وسلم)، إنه هو الذي ربي ذلكم الجيل الفذ و من قلبه الكبير أُترعت هذه القلوب تفانيًا في الله و إيثارًا لما عنده.

و قد أصيب هذا النبي الجليل في أحد في بدنه إذ دخلت حلقات المغفر في وجهه.فأكب عليه أبو عبادة يعالج انتزاعها بفمه، فما خلصت من لحمه حتي سقطت معها ثنيتاه.و نزف الدم بغزارة من جراحته.

كلما سكب عليه الماء ازداد دفقًا، فما استمسك حتي أحرقت قطعة من حصير فألصقت به.و كسرت كذلك رباعيته، و كسرت البيضة علي رأسه.و مع ذلك فقد ظل متقد الذهن، يوجه أصحابه إلي الخير حتي انتهت المعركة.

ثم أصيب في أهله، فقتل حمزة بحربة انغرست في أحشائه، و جائت هند امرأة أبي سفيان، فاستخرجت كبده من بطنه و لاكتها بفمها ثم لفظتها لانفجار المرارة.و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعز حمزة و يحبه أشد الحب فلما رأي شناعة المثلي في جسمه تألم أشد الألم.

وقال:(لن أصاب بمثلك أبدًا و ما وقفت قط موقفًا أغيظ إلي من هذا)، بيد أن التسليم لله لم يلبث أن مسح الأحزان العارضة و عاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتفقد أصحابه و يخفف ما نزل بهم و يسكب من إيمانه علي نفوسهم ما يملؤها عزاءً و رضًا عن الله و استكانة لقضائه.

روي الإمام أحمد:لما كان يوم أحد، و انكفأ المشركون قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(استووا حتي اثني على الله عز و جل)، فصاروا خلفه صفوفًا فقال:(اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت و لا باسط لما قبضت و لا هادي لمن أضللت و لا مضل لمن هديت و لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، و لا مقرب لما باعدت و لا مبعد لما قربت اللهم ابسط علينا من بركاتك و رحمتك و فضلك ورزقك.

اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة و الأمن يوم الخوف اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا و شر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان و زينه في قلوبنا و كره إلينا الكفر و الفسوق و العصيان و اجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين.

و أحينا مسلمين و ألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة اللذين يكذبون رسلك و يصدون عن سبيلك و اجعل عليهم رجزك و عذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق).

إنه كان مثالًا حيًا للرجولة و بث الأمل في قلوب من حوله من الصحابة، ففي حفر الخندق يقص علينا الصحابي الجليل عمرو بن عوف (رضي الله عنه) فيقول:كنت أنا و سلمان و حذيفة و النعمان بن مقرن وستة من الأنصار في أربعين ذراعًا "من الأرض التي كلفوا بحفرها" فحفرنا حتي وصلنا إلي صخرة بيضاء كسرت حديدنا و شقت علينا.

فذهب سلمان إلي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخبره عن هذه الصخرة التي اعترضت عملهم و أعجزت معاولهم.فجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) و أخذ من سلمان المعول ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها و تطاير منها شرر أضاء خلل هذا الجو الداكن، و كبر (صلى الله عليه وسلم) تكبير فتح و كبر المسلمون ثم ضربها الثانية فكذلك ثم الثالثة فكذلك.

تفتت الصخرة تحت ضربات الرجل الأييد الجلد الموصول بالسماء الراسخ علي الأرض و نظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلي صحبه و قد أشرق علي نفسه الكبيرة شعاع من الثقة الغامرة و الأمل الحلو فقال يحدث صحبه عن السنا المنقدح بين حديد المعول و حدة الصخر:أضاء لي في الأولي قصور الحيرة و مدائن كسري كأنها أنياب الكلاب و أخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها.

وفي الثانية أضاء القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، و أخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها و أضاء لي الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب و أخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا، فاستبشر المسلمون و قالوا لله موعود صادق.

فلما انسابت الأحزاب حول المدينة وضيقوا عليها الخناق لم تطر نفوس المسلمين شعاعًا بل جابهوا الحاضر المر و هم موطودو الأمل في الغد الكريم."وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" االأحزاب.

أما الواهنون و المرتابون و مرضي القلوب فقد تندروا بأحاديث الفتح و ظنوها أماني المغرورين و قالوا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم):يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة و مدائن كسري و أنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا.و فيهم قال الله تعلي:"وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا" الأحزاب.

إن الإسلام نجده اليوم كما هو ان لم يكن في أصحابه فهو منصور في كتابه الذي لا يتأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

إن عمر التلميذ النابه للرسول (صلى الله عليه وسلم) لما سمع "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ "المائدة، بكي رضي الله عنه فقيل له ما يبكيك؟

قال: انه ليس بعد الكمال إلا النقصان كأنما استشعر وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) و هو الذي قال لهم في حجة الوداع:((خذوا عني مناسككم فلعلي لا أرجع بعد عامي هذا)).

صلوات ربي و سلامه عليه.

الكاتب: د. عمر عبد الكافي

المصدر: موقع د. عمر عبد الكافي